صناعة التقاوي السلاح الخفي في معركة الغذاء

في عالم مضطرب تتسارع فيه الأزمات المناخية والجيوسياسية، وتُختنق فيه سلاسل الإمداد العالمية، تبرز "التقاوي" كأول خط دفاع عن الأمن الغذائي في الدول. ليست مجرد بذور تُبذر في الأرض، بل مفتاح السيادة الزراعية، وأساس الاكتفاء الذاتي الذي تتطلع إليه مصر والدول العربية.
قضية مصيرية تتجاوز الزراعة
الدكتور علي إبراهيم، أستاذ بمعهد بحوث البساتين بمركز البحوث الزراعية، يؤكد أن صناعة التقاوي تمثل الركيزة الأولى في سلسلة الأمن الغذائي، وهي أكثر من مجرد نشاط زراعي؛ إنها قضية سيادية تمس حياة المواطن العربي من المزرعة إلى المائدة.
فالتقاوي الجيدة لا تزيد الإنتاج فحسب، بل تحسن الجودة وتقلل الخسائر الناتجة عن الأمراض والآفات. والأهم، أنها تضمن غذاءً آمنًا، بعيدًا عن التلاعب الوراثي والمخاطر الصحية، ومُصممًا خصيصًا ليناسب البيئة المحلية واحتياجاتها.
نزيف الدولارات واستيراد القلق
الاعتماد المزمن على التقاوي المستوردة يُكلف الدول العربية مليارات الدولارات سنويًا، ويضعها تحت رحمة المتغيرات الدولية. في الخليج والمغرب العربي، تصل نسبة الاعتماد على التقاوي الأجنبية إلى أكثر من 70%، ما يجعل الأمن الغذائي مرهونًا بالسياسات الخارجية، والنزاعات الدولية، وتقلبات الأسواق العالمية.
رغم التحديات بنية علمية واعدة
تمتلك مصر بنية بحثية قوية في مجال التقاوي، مثل مركز البحوث الزراعية ومعهد بحوث المحاصيل الحقلية، وتنتج نسبًا كبيرة من تقاوي المحاصيل التقليدية كالقمح والأرز والذرة. إلا أن هناك فجوة واضحة في إنتاج التقاوي عالية الجودة للمحاصيل الاستراتيجية، خاصة الخضروات والفواكه الهجينة، ما يُبقي باب الاستيراد مفتوحًا.
تحديات تتكاثر كالفطر
الأزمات الدولية:
الحرب في أوكرانيا والصراع في البحر الأحمر أديا إلى ارتفاع تكاليف النقل وأسعار البذور، وفرضت بعض الدول المصدرة قيودًا على تصدير المدخلات الزراعية.
تغير المناخ:
ارتفاع درجات الحرارة وزيادة نسبة الملوحة والجفاف يفرض ضرورة إنتاج تقاوي مقاومة لهذه الظروف.
الأسعار العالمية: التقاوي الأجنبية أصبحت باهظة، ما يضر بالجدوى الاقتصادية للزراعة العربية.
ثورة التكنولوجيا:
دخول الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي إلى مجال التهجين يفرض تحديًا للدول التي لم تلحق بركب التطوير البحثي.
التقاوي.. سلاح استراتيجي لتحقيق الاكتفاء الذاتي
ليست التقاوي مجرد مدخل زراعي، بل أداة تنموية شاملة. فالأصناف المحسنة ترفع الإنتاجية وتقلل الفاقد، وتفتح آفاقًا جديدة للتصدير، وتدعم التنمية الريفية من خلال تقاوي ملائمة للبيئات المحلية، وتخلق فرص عمل في مجالات الإنتاج والتوزيع والبحث العلمي.
كما أن توطين صناعة التقاوي يُعزز من قوة الأمن القومي الغذائي، عبر تقليل التبعية وتقوية السيطرة على مفاتيح الزراعة.
صناعة التقاوي.. بين الطموح والعقبات
رغم الإمكانيات البحثية والبشرية، تواجه صناعة التقاوي في مصر والعالم العربي عدة معوقات:
ضعف التمويل الموجه للبحث العلمي الزراعي.
غياب التنسيق بين الدول العربية في برامج التربية الوراثية.
هيمنة الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات على السوق.
نقص الوعي لدى المزارعين بأهمية التقاوي المحسنة.
تشريعات زراعية قديمة لا تواكب التحديات الجديدة.
خارطة الطريق نحو الاستقلال الغذائي
لإعادة رسم مستقبل صناعة التقاوي وتحقيق السيادة الزراعية، يقترح الخبراء حزمة من الحلول الاستراتيجية:
1. تأسيس تحالف عربي لإنتاج التقاوي يضم الدول ذات القدرات الزراعية وفي مقدمتها مصر.
2. تمويل برامج البحث والتربية الوراثية وتطوير أصناف محلية قادرة على مجابهة التحديات المناخية.
3. تحديث القوانين والتشريعات الزراعية لحماية الأصناف الوطنية وتحفيز الاستثمار في هذا القطاع.
4. تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لتوسيع نطاق الإنتاج المحلي.
5. الاعتماد على الزراعة الذكية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لتسريع عملية التهجين وتحسين الكفاءة الإنتاجية.
الزراعة تبدأ من البذرة.. والاستقلال كذلك
واختتم الدكتور علي إبراهيم، أستاذ بمعهد بحوث البساتين بمركز البحوث الزراعية، إذا كان طريق السيادة الغذائية يبدأ من الزراعة، فإن أول خطوة على هذا الطريق تبدأ من البذرة. كل تقاوي محلية تُنتج، تمثل خطوة نحو تقليل التبعية، وتعني رغيفًا محليًا أكثر أمنًا، ومزارعًا أكثر ثقة، واقتصادًا أكثر استقرارًا، حيث أن امتلاك قرار إنتاج التقاوي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لدول تبحث عن مكان تحت شمس الاستقلال. فالبذرة ليست مجرد حبة تُدفن في التراب، بل أملٌ يُزرع للمستقبل، وسلاحٌ صامت في معركة الأمن الغذائي.