الأرض
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 10:33 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

”الحكومة مدرسة” .. حققها ”ناصر” في صناعة بروتين الفقراء

أطلق عبد الناصر مشروع مديرية التحرير "الزراعي" عام 1954، فانتقلت إليه مئات الآلاف من الأسر، من فقراء محافظات مصر، الذين حرموا من أراضي الإصلاح الزراعي، لتنشأ فيها طوعا مجتمعات عمرانية مستدامة، أصبحت ريفية فضفاضة، وموازية للريف القديم المكتظ في الوادي والدلتا، وحققت الأمن الغذائي في حقبة توالت على مصر فيها الحروب من يونيو 1967، مرورا بحرب الاستنزاف حتى انتصارات أكتوبر 1973.
وبديلا عن النزوح الجماعي للقرويين صوب المدن الكبرى، مثلما حدث خلال العقدين الماضيين، نشأت تجمعات سكانية خضراء، على ضفاف الترع والقنوات التي تخللت أكثر من 4 ملايين فدان، حولتها الفؤوس والمناجل والأظافر إلى حقول منتجة، وحظائر ماشية وأغنام ودواجن، حفظت البلاد والعباد من تبعات الفقر والعوز.
كان مشروع مديرية التحرير، ولا يزال، شاهدا على أهمية الزراعة في تكوين لُحمة مجتمعية مستورة، وظل طوال 60 عاما المورد الأكثر ثراء لخضروات وفواكه، عجزت عن إنتاجها أراضي الوادي والدلتا التي خُصِصَت آنذاك للقطن، والقمح، والأرز، والذرة، والبرسيم، والفول البلدي.
وبالتوازي مع الاستصلاح والزراعة، تنبه عبد الناصر مبكرا، إلى أهمية البروتين كوجبة غذائية أساسية للإنسان المصري، فبدرت إلى ذهنه فكرة إطلاق "مشروع ناصر لتربية الحيوانات والدواجن"، فاستدعى رجلين من أهل العلم والخبرة، عام 1964، أولهما طبيبا بيطريا، هو الدكتور أمين زاهر أستاذ الدواجن بكلية الطب البيطري ـ جامعة القاهرة آنذاك، وثانيهما زراعيا وهو الدكتور محمد توفيق رجب الذي كان أيضا أستاذا بنفس الجامعة في كلية الزراعة، فأسند للأول مهمة إنشاء المؤسسة العامة للدواجن، فيما عهد إلى الثاني بإنشاء المؤسسة العامة للحوم والألبان.
ظلت المؤسستان منذ تأسيسهما ترتفعان على مؤشر التنامي، وكانتا حلما وأملا وقتذاك لكل خريجي الزراعة، والطب البيطري للأعمال التخصصية الفنية، كما تسابق عليهما خريجو التجارة والآداب وغيرهما من الكليات للالتحاق بوظيفة إدارية، وذلك بنهم يزيد على تهافت خريجي العقود الثلاثة الماضية على وظائف البترول، والضرائب، والبنوك.
لم تكن مصر تعرف في تلك الأيام سوى البقرة المنقوشة على جدران المعابد المصرية القديمة، والجاموس المصري، و"الفرخة الفيومي"، وهي الدجاجة المصرية "أُمّا عن جدود" تصل إلى العصر الفرعوني، ومع ذلك أهملتها مصر، رغم وجود مشروع قائم حتى الآن في محافظة الفيوم، ينتج منها نحو 20 مليون دجاجة سنويا، وسرقت أمريكا جينها لتنتجها هناك، ويباع الكتكوت منها بـ 5 دولارات.
استشرف عبد الناصر مبكرا مخاطر الزيادة السكانية المحتملة، كونه يعرف طبيعة المجتمع الفلاحي الذي ولِد وعاش فيه، فخِلفة "دستة" الأبناء ضرورة للعمل في "الغيط"، ولتأسيس عزوة "البيت"، فنقل صناعة البروتين من دجاجة لا تبلغ وزن الكيلو جرام قبل ستة أشهر، إلى بديلة لها تزن ضعفها في 33 يوما، باستثمار خبرة العالم في استنباط السلالات والتغذية ومكافحة الأوبئة.
لم يكن الفلاح يملك حيلة لتربية ماشيته آنذاك، سوى الطريقة التقليدية في التغذية بالبرسيم الأخضر، وتخزينه بالتجفيف "دريسا"، ثم خلطه بتبن القمح، ليصل بوزن العِجل إلى 200 كيلو جرام في عامين أو أكثر، وذلك قبل أن يلجأ عبد الناصر إلى العلم والعلماء، فاستورد علوم التحسين الوراثي لسلالات المواشي المصرية، ثم استيراد سلالات أمهات الدواجن الأجنبية، لتنجح "العامة للدواجن" في تأسيس منظومة متكاملة لصناعة الدواجن، بداية من التفريخ، ثم التسمين، واستيراد الأمصال واللقاحات، ثم الذبح في مجازرها، ولتنجح "العامة للحوم والألبان" في تحقيق المستهدف منها.
وعلى هامش المؤسستين الحكوميتين الوحيدتين في مصر، أنذاك، بدأت التجارة في توزيع الكتاكيت، لتأسيس قاعدة شعبية واسعة من المربين الأهليين، وبعض المستثمرين لخوض تجربة إنشاء مزارع الدواجن، والماشية، ولم يكن هناك مصدرا لكتكوت أو علف إلا مفرخات "العامة للدواجن" ومصانع أعلافها.
بدأت الحكومة آنذاك، بتوجيه رئاسي، في تمويل المربين والمزارعين بالأعلاف، وكان سعر طن الذرة من الحكومة للمربين 60 جنيها، مقابل توجيه 10 % من إنتاج مزارع الدواجن إلى الجمعيات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، بسعر التكلفة فقط، وهو ما ينشده حاليا وزير الزراعة الجديد الذي عقد أخيرا اجتماعات مع الجمعيات التعاونية الزراعية، محاولا إحياء هذه المنظومة، وذلك بمنح مربي الماشية "الردة"، مقابل بيعهم عجول التسمين إلى وزارة التموين، بسعر يضمن الربحية للمربي، والرحمة للمستهلك.
واصلت المؤسستان الحكوميتان تقدمهما في إحكام منظومة الأمن الغذائي القومي للمصريين، حتى خلال حكم الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، ولم يطرأ عليهما طارئ حتى تغير مسمى "العامة للدواجن"، إلى "المتحدة للدواجن"، التي تعرضت بعد ذلك إلى مخطط تصفية القطاع العام على أيدي حكومة عاطف عبيد، رئيس الوزراء الأسبق، وذلك بعد تقسيم الشركة إلى مقريهما في مدينتي "السلام" والنوبارية"، ومحطة حلوان لإنتاج بيض المائدة.
وحتى الآن يحار كل من له علاقة بصناعة بروتين الفقراء، كيف نجحت الحكومة المصرية في عقود مضت، في إنشاء هذه الكيانات التي نشرت مزارعها، ومجازرها، ومفرخاتها، ومصانع أعلافها في جميع محافظات مصر، بدلا من استيراد الدواجن واللحوم مجمدة، وكيف كانت المنظومة الحكومية معينا للخبرات التي ساعدت القطاع الخاص بعد ذلك على النهوض فوق أنقاضها، حيث اشترت مواقعها شركات مصرية عملاقة، بعضها كان "مساهمة"، وبعض منها كان عائليا، لتظل بقاياها عرضة للنهب والسرقة و"التخريب" العمدي.
وبعد استعراض تاريخ صناعة بروتين الفقراء في مصر، وبالذات منظومة صناعة الدواجن، التي يعمل بها حاليا أكثر من خمسة ملايين عامل، وتحتضن استثمارات تقدر بنحو 70 مليار جنيه، وتنتج كل طلعة شمس نحو 3.2 مليون دجاجة طازجة، وتكفينا ذاتيا من بيض المائدة، يحدونا الأمل في استمرار رعاية حكومية لماكيناتها وتروسها الوطنية.
والحماية لن تتحقق إلا بمنع إغراق المستورَد، وتفعيل توجيهات الرئيس السيسي، وقرار مجلس الوزراء المبني على هذه التوجيهات، بمنع استيراد الدواجن إلا من خلال لجنة مخصصة للنظر في أهمية الاستيراد من عدمه، إضافة إلى الالتزام بقرارات إعفاء صناعة الأعلاف من عبء "القيمة المضافة"، لتستمر الحكومة قاطرة للأمن الغذائي، وحامية للأمن المجتمعي، ليتحقق شعار "تحيا مصر".