الأرض
الأربعاء 28 مايو 2025 مـ 01:48 صـ 29 ذو القعدة 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

زيت الزيتون: من نور الشجرة المباركة إلى شفاء الإنسان

في كل قطرة زيت زيتون نقية، تختبئ حكمة الخالق سبحانه وتعالى وسرّ الطبيعة، فزيت الزيتون هدية ربانية حملتها أغصان الزيتون منذ أزل الخليقة، وذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز:

"وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ"المؤمنون: 20.

رحلة الزيت من ثمرة إلى دواء:

حين تنضج ثمرة الزيتون على الشجرة المباركة، تتكون داخلها تركيبة كيميائية مذهلة، ليست وليدة المصادفة، بل هي تجسيد للتوازن الإلهي بين الجمال والمنفعة. تبدأ رحلة "الذهب السائل" منذ اللحظة التي تغرس فيها شتلة الزيتون المناسبة فى الأرض والبيئة المناسبة ومرورا بالخدمة والرعاية وصولا إلى المرحلة التى تُعصر فيها الثمرة البكر، حيث يخرج الزيت لا كدهون فقط، بل كمزيج معقد من مركبات عضوية دقيقة، جعلت العلماء يذهلون من خصائصه وفوائده، وأطباء التغذية يوصون به علاجًا ووقاية، وعشاق النكهة يرونه تاجًا على موائد الطعام.

حامض الأوليك: قلب الزيت ونبض الفائدة

يشكل حامض الأوليك (Oleic acid)، وهو من الأحماض الدهنية الأحادية غير المشبعة، العمود الفقري لتركيب زيت الزيتون، إذ يضفي عليه خصائص فيزيائية تجعل مذاقه ناعمًا، وخصائصه صحية تجعله صديق القلب والشرايين. هذا الحمض الفريد يساهم في خفض الكوليسترول الضار، ويحافظ على توازن الدهون في الجسم، ويقي من الالتهابات، كما يحسن من استجابة الخلايا للأنسولين، ولهذا يحتل زيت الزيتون منزلة خاصة في النظام الغذائي المتوسطي الذي يتغنى به الأطباء.

الفينولات: معجزة الشفاء في قطرة

أما الفينولات (Phenolic compounds)، فهي جوهرة زيت الزيتون الخفية وعلامة جودته الفارقة! هذه المركبات العبقرية لا تقتصر فوائدها على كونها أقوى مضادات أكسدة طبيعية تحارب الشيخوخة والسرطان فحسب، بل هي سرّ المرارة اللاذعة التي يتفاخر بها الزيت الأصلي. "When bitter is better" تلك الحكمة التي تتناقلها الأجيال، فكلما اشتدت مرارة الزيت، دلّ ذلك على غنى محتواه الفينولي وقوته الشفائية. فلها تأثير مضاد للالتهابات يفوق بعض الأدوية التقليدية، وتلعب دورًا مهمًا في حماية الدماغ وتعزيز الوظائف الإدراكية

هذه المرارة الذكية - التي يخشاها المبتدئون ويقدّرها الخبراء - ليست مجرد دليل جودة، بل هي بصمة إتقان في الزراعة والقطاف والعصر. إنها تلعب دوراً محورياً في حماية الكبد وتعزيز إفراز المرارة، كما تمنح الزيت شخصيته المميزة وعمره الطويل. فالحقيقة التي أدركها الحكماء منذ قرون: الزيت المرّ هو زيت العارفين، كنز من الفوائد يختبئ وراء لذعة عابرة تتحول إلى حلاوة صحية تدوم طويلاً.

التوكوفيرولات (Tocopherols) والفيتامينات (Vitamins, KEDA): درع المناعة والجمال

في تركيبة زيت الزيتون توجد أيضًا التوكوفيرولات، وأشهرها فيتامين E، ذلك الفيتامين الذي يحمي الأغشية الخلوية، ويقوي جهاز المناعة، ويمنح البشرة نضارتها، ويبطئ آثار الزمن. ويحتوي الزيت كذلك على فيتامينات أخرى كفيتامين A وK، تساهم في تقوية النظر، وتحسين تجلط الدم، وتعزيز نمو الخلايا.

الإستيرولات (Sterols) : الحراس الصامتون

وتمثل الإستيرولات النباتية جزءًا من بنية الزيت، وهي مركبات تلعب دورًا هامًا في تقليل امتصاص الكوليسترول في الأمعاء، ما يساهم في الحفاظ على مستويات صحية للكوليسترول في الدم. إنها درع داخلي يحمي الجسم من أمراض العصر الصامتة.

بين العلم والأدب: حكمة السكينة في قطرة زيت

زيت الزيتون ليس مجرد طعام، بل ثقافة. هو جزء من التراث الإنساني، وذكره في الكتب السماوية دلالة على قداسته. هو غذاء النبيين، وزاد الحكماء، وبلسم الشيوخ، ورفيق الشباب في دروب العافية. فيه نكهة الأرض، ودفء الشمس، ورقة النسيم، ويد الفلاح الذي اعتنى بالشجرة كمن يعتني بكنز.

وفي النهاية، يبقى زيت الزيتون شاهدًا على المعجزة الإلهية في خلق الغذاء والدواء في آنٍ واحد، حيث اجتمع العلم والروح، التغذية والشفاء، في قطرة واحدة، تخرج من شجرة مباركة، لا شرقية ولا غربية، كأنها تُسكَب من نور.

*أستاذ ورئيس قسم الزيوت والدهون بالمركز القومي للبحوث