الأرض
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 12:22 مـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

شبح جاليليو واستصلاح الأراضي الجديدة

إصرار الرئيسي السيسي وتركيزه المستمر على بند استصلاح الأراضي، يلفت نظر المتابعين حرصه على زيادة إنتاج مصر من الغذاء، الذي هو محور تركيز العالم حتى بدون أزمات ولا جائحات، وذلك لأن الجوع هو مصدر الفقر والمرض، وبالتالي تفريخ الإرهاب.

ومع استمرار نداءات السيسي وتركيزه على هذا المحور، ومع عدم ظهور آراء خبيرة لتوجيه هذه التعليمات في مسار فني متاح ومثمر، يظل الرئيس نفسه شاعرًا بخواء المشهد ممن يصارحه الرأي، ويصدقه النية، حيث يخافون من مصير جاليليو، الذي قال لقومه إن الأرض كروية فأعدموه.

من هذا المنطلق، سآخذ بزمام المبادرة، وأصدق الرئيس النية، وأصارحه بأن مصر ليست في حاجة حالية أو ملحة لاستصلاح أراض جديدة، بالمفهوم الذي يفسره المصطلح على عمومه، بل هي في حاجة ماسة إلى صيانة تربة الأراضي المنزرعة القديمة، ومساحتها نحو 6.1 مليون فدان أرض، ونحو 18 مليون فدان محصولي، بحساب العروات الزراعية.

وليست فكرة صيانة الأرض المنزرعة، جديدة على الساحة، لكن للأمانة فإن واحدا من أنبل علماء الزراعة في مصر، وهو الدكتور أحمد أبو اليزيد الأستاذ في كلية الزراعة ـ جامعة عين شمس، ورئيس مركز البحوث والاستشارات الزراعية بالجامعة، كان قد أنجز دراسة علمية حقلية واقعية، وضع لها مسمى عمليًا هو "المشروع القومي لصيانة التربة"، وهو مشروع من شأنه ـ في حالة تنفيذه، أن يزيد الإنتاجية الرأسية من الأرض المنزرعة حاليا بنسبة تصل إلى 30%، وهي نسبة تعطي كمية محصولية تساوي إنتاج نحو مليوني فدان صحراوية.

وصيانة التربة المصرية المنزرعة قديما، تعني عدة محاور نوردها بنتائجها فيما يلي:

- تطوير الري الحقلي في الأراضي القديمة، ليس بالمفهوم السائد، ولا بالمشاريع الأجنبية التي ضخت بالملايين، وخرّبت بالمليارت، ونهبت معلومات تقدّر نتائجها السلبية على المدى الطويل بما يصعب على الوصف.

* الأسلوب الأمثل في تطوير الري الحقلي، يتلخص في تكليف الفلاحين والمزارعين في عموم مصر، بعمليات تبطين الترع والمساقي بأنفسهم، وتغطية ما يستوجب تغطيته منها، لزراعة ما فوقها، وتغيير أسلوب الري بالغمر في الدلتا إلى التنقيط والرش، مع إقراض المنتفع مبلغا محسوبا لتكلفة الفدان، وإلزامه بسداده على أقساط ميسرة، وليتم المشروع على مراحل مدتها عشرة أعوام.

** هذا المشروع يتكلف نحو 50 مليار جنيه لإنجاز البنية القومية اللازمة لتطوير ري 5 ملايين فدان في الدلتا وجزء كبير من أراضي الوادي القديم، وهي ميزانية لا تزيد تكاليفها على 5 مليارات جنيه سنويا لمدة عشرة أعوام، يستطيع اتحاد بنوك مصر تمويلها دون عناء، ونتائجه المحسوبة والمجربة لدى البعض ترفع الإنتاجية المحصولية بما لا يقل عن 30٪.

* هذه النسبة كفيلة بزيادة إنتاجية قدرها نحو: 4 ملايين طن قمح، و40 مليون طن برسيم أخضر، وتوفير نحو 5 مليارات متر مكعب مياه سنويا، والنتيجة المباشرة حقن نحو 650 مليون دولار (نحو 15 مليار جنيه) ثمن استيراد 4 ملايين طن قمح من الأصناف الأقل جودة، إلى جانب الزيادة الطبيعية في الثروة الحيوانية ومنتجات الألبان وهو المحور الثاني في نداء الرئيس السيسي، وتوفير المياه التي تراجع نصيب الفرد منها إلى ما دون خط الفقر.

- تطوير وصيانة شبكات الصرف الزراعي في المساحة ذاتها، وردم المجاري المائية الفرعية التي تفصل الحيازات الصغيرة، والاستفادة من مشاريع الصرف المغطى القديمة التي فخخت معظم مساحات الدلتا بخطوط، أصبحت عبئا على الأراضي منذ عدة أعوام، بعد انسدادها وتراجع آليات وميزانيات صيانتها.

* وصيانة الصرف الزراعي، تعظم الاستفادة من بند تطوير الري الحقلي، حيث تفيد في تخليص مسامات التربة من المياه الزائدة، وبالتالي إحلال الأوكسجين محلها، لتنشط البكتيريا النافعة، المعنية بتيسير وتفكيك الطبقة الصماء الناتجة عن تراكم الأسمدة الكيماوية وتفاعلاتها على مر العصور.

* تنفيذ سياسة الزراعات التجميعية للمحصول الواحد في حيازات جمعيات كاملة، وذلك لتسهيل الخدمات الإرشادية، وتنفيذ برنامج الزراعات التعاقدية لضمان تسويق إنتاجها، وبالتالي تعظيم القيمة المضافة من إنتاجها.

- إلزام معهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة التابع لمركز البحوث الزراعية، بإنجاز خريطة خصوبة، وفي هذا المعهد من الباحثين ما يكفي لإصلاح أراضي الكوكب، حيث تضم أرففه وأدراج مكتباته، آلاف الأبحاث والدراسات والخرائط، وملايين الصور المخزنة إلكترونيًا، وثروة من المعلومات المتحصلة من تقنيات الاستشعار عن بعد، بما يكفي لإنجاز خريطة خصوبة جديدة، بعد مسح جديد، لتحديث بيانات خاصة بالملوحة والقلوية وتحليل عناصر التربة.

* نتائج هذه النقطة تفيد في سد فجوات عديدة تتعلق ببرامج التغذية (التسميد)، حيث لا يصح ولا يليق بمصر أن تضع برنامجا سماديا واحدًا لجميع المحاصيل، مع اختلاف الجغرافيا والمناخ من منطقة إلى أخرى، ومع اختلاف طبيعة التربة وطبقاتها ومكوناتها، وطرق ريها، وحالة صرفها.

** خريطة الخصوبة تفيد سلامة تشخيص حالة النبات أو المحصول، وتضمن صرف روشتة علاجية تناسب طبيعة الأرض ومناخها، وكيميائها، حتى لا تكون إضافة السماد هدرًا ماليًا، ومسببًا كارثيًا لانتكاس بناء التربة وحالتها البيولوجية.

- صيانة التربة القديمة، لا يعني التوقف التام عن استصلاح أراض صحراوية جديدة، لزيادة الرقعة المنزرعة بالتوازي، لكنه يتطلب تعظيم الناتج الإجمالي الزراعي بالاستثمار في تصنيع حاصلاتها، والتخزين في صوامع حديثة، بدأت تظهر لكن ليس بالقدر الذي يكفي لخفض الهدر في محاصيل الحبوب الاستراتيجية، إضافة إلى إعادة إحياء منظومة التسويق التعاوني، وتفعيل دور الملحقيات التجارية في الخارج لتنشيط برامج الصادرات الزراعية المصرية.

* في النقطة السابقة، تكفي الإشارة إلى أن إجمالي الهدر في محاصيل القمح والأرز والذرة والفول، يقدر بنحو 30٪ من الإنتاج، في عمليات الحصاد، والتداول، والتخزين بالأساليب التقليدية، ونصيب التخزين فقط نحو 20٪، وهي نسبة كفيلة بتوفير نحو مليوني طن قمح، وأكثر من هذا الكم في الأرز، وهي غلال تشغل أراض، وتستهلك مياها وأسمدة وعمالة وآليات حصاد ونقل.

** مرت أكثر من خمسة أعوام على مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري، الذي أقيم في شرم الشيخ (13 - 15 مارس 2015)، وخلت أجندة فرص "الزراعة" في المؤتمر من مشاريع التصنيع الغذائي، وما أكثرها، ومنها: مصانع مركزات عصير الموالح، مصانع تجفيف البصل والثوم، مصانع تجفيف الطماطم وعصرها، مصانع فرز التمور وتعبئتها وتجهيزها للتسويق والتصدير، وهذه المشاريع تعظم قيمة فواقد الحاصلات البستانية، بما يفوق الأصل المستثمر منها بالبيع المحلي أو بالتصدير.

* التسويق التعاوني الغائب منذ أكثر من عشرة أعوام، لم يترك من آثاره سوى كيانًا مهلهلًا يحمل اسم "التعاون الزراعي"، الذي اقتصر دوره على الاتجار بمستلزمات الإنتاج، خاصة الأسمدة والمبيدات، لكنه تخلى عن دوره الحقيقي، أو تم تحييده عمدًا، في عملية شراء المحاصيل الاستراتيجية من الفلاحين، كحلقة وسيطة بين الفلاح ووزارة التموين.

ويجب التنويه هنا إلى أن إحياء التعاونيات الزراعية والاستهلاكية، يفيد في إنشاء أسواق جديدة، وتفعيل القوانين التي أتاحت لجمعياتها إنشاء شركات في نطاق يخرج عن دائرة تأسيسها أو نشاطها، كما يساعدها على إنشاء مصانع تعظم ناتج المشروعات الزراعية والحيوانية والداجنة والسمكية، وهو معمول به في بعض دوائر جمعيتي الإصلاح والاستصلاح.

** لم يتبق سوى دور الملحقيات التجارية في الخارج، التي يناط بها تنشيط التعاقدات التجارية لفتح أسواق جديدة أمام حاصلاتنا الزراعية، وما أغنى من سيرتها الذاتية وسمعتها التي غزت العالم بفعل أفراد، استطاعوا دخول دول وقارات لم تكن حكومات دول أخرى تعرف خريطتها.

هذه المحاور تؤكد أنه لا حاجة لمصر حاليا في استصلاح أراض صحراوية جديدة، هي برمالها ومياهها الجوفية وخيراتها من حق الأجيال القادمة، بخريجيها وعلمائها وبحوثها، وحكوماتها، وها أنذا تجاسرت وسجلتها هنا، دون الخوف من مصير جاليليو.