الأرض
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 08:21 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

في مصر .. نشرب شوربة الصقور

الجيزة

منذ أكثر من 30 عاما، كنت أغار من بريطانيا وأمريكا وإسبانيا، لامتلاكها أصول دواجن، تصدِّر منها كتكوت "جد" عمر يوم واحد، بنحو 10 دولارات للرأس.

وحين سؤالي أساتذة رعاية الدواجن في كلية الزراعة جامعة القاهرة، قبل نحو عامين أثناء دراستي ماجستير "الاتجاهات الحديثة في الإنتاج الداجني"، عن سر ارتفاع سعر هذا الكتكوت العجيب، أعطوني درسا سريعا في علم استنباط أو انتخاب السلالات، وعرفت في النهاية أن الوصول إلى سلالة مُنسَّبة أصيلة تملك صفات وراثية نافعة لإنتاج اللحم، أو إنتاج البيض، يعني إنفاق مبالغ تصل إلى 200 مليون دولار، لتمويل دولاب بحثي قوامه عشرات العلماء، في عملية قد تستمر عشرة أعوام.

أزمة سلالات دواجن مصرية أصيلة

وقبل نحو اسبوعين، فوجئت بخبر، توقعت أن نشره سوف يزلزل وزارة الزراعة، ويطيح رأسها على عقبيها، وتعجلت طلوع النهار حتى أصعد درج الوزارة المرمري التاريخي حتى الطابق الثالث، وأطرق باب المسئول الأول عن هذا الخبر في مصر، وأبلغت مديرة مكتبه أن هناك كارثة ستقع لا محالة، وتهدد الأمن الغذائي المصري، فانتفضت كعادتها، لتبلغ المهندس مصطفى الصياد نائب الوزير لشؤون الثروة الداجنة والحيوانية والسمكية، بأنني في الخارج، وأنني أحمل خبر كارثة كبرى.

دخلت على الرجل، المهتم دائما، المولع بقضايا الأمن الغذائي عادة، ولم تلفح ابتسامته العريضة المعتادة في تهدئة حماسي، قبل أن أصب على رأسه دهشتي، معلنا الخبر الكارثي:

ـ الحق يا مصطفى بيه .. معهد بحوث الإنتاج الحيواني سيضطر لبيع قطعان السلالات الداجنة المصرية الأصيلة كدجاج تسمين للذبح، بالرأس، وذلك لعدم وجود ميزانية مالية في خزينة المعهد تكفي لإطعام هذه الثروة القومية، وذكرته بالمثل الخليجي الشائع: "اللي ما يعرف الصقر يشويه"، وعقبت عليه بأننا سنذبح الصقور ونشرب شوربتها أيضا.

ـ لم تتغير ابتسامة الرجل، لكن سحنته تغيرت وغطتها الدهشة، وتبين لي أن مصدر الدهشة هو تسرب الخبر، على الرغم من أن رئيس مركز البحوث الزراعية، كان قد هدد جميع الباحثين في معهد بحوث الإنتاج الحيواني، بأن تسريب الخبر للصحافة، سيعرض الجميع للمساءلة القانونية.

بيع 183 ألف جدة دواجن مصرية أصيلة

ـ طمأنني الرجل، وقال إنه سيتدخل لحل الأزمة، بعد أن ظهرت إحصائية تخص محطات بحوث الدواجن التابعة لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني العريق، والتي تعمل منذ أكثر من 40 عاما، وكانت تملك نحو 190 ألف رأس من نحو 14 سلالة مصرية تمكن علماء مصر من استنباطها بالتهجين والانتخاب طوال تاريخ طويل من العمل الدءوب، وكانت هذه المحطات تنفق على ذاتها، لتُظهِر جدوال الإحصائية أن عدد القطيع تناقص تدريجيا حتى بلغ حاليا نحو 7 آلاف رأس فقط، لتتحقق الكارثة بوثيقة رسمية صادرة عن المعهد في آخر استغاثة موجهة إلى رئيس مركز البحوث الزراعية، قبل نحو ثلاثة أسابيع، بضرورة التدخل والتصرف في كمية أعلاف تكفي هذه الثروة قبل بيع نصفها لتأمين الغذاء للنصف الآخر.

انصرفتُ من مكتب نائب وزير الزراعة، وكلي أمل في أنه سوف يتدخل بحنكته المعروفة لحل الأزمة، دون ضجيج إعلامي، وأخذت على نفسي عهدا بألا أثير هذا الأمر إعلاميا ـ كونه يندرج تحت باب "الأمن القومي الغذائي المصري"، حتى وجدته مذاعا على السوشيال ميديا، كما نشرت عنه الزميلة منى البديوي في جريدة "العالم اليوم" مقتطفا صغيرا يعبر عن الحالة، منقولا على لسان أحد علماء معهد بحوث الإنتاج الحيواني.

ـ الغريب أن السوشيال ميديا تحفل بنكات مضحكة مبكية، منها تصريحات لمسئولين حكوميين، لا أدري، كيف يستعدون للقاء الله سبحانه وتعالى، حيث تضطرهم قوة الغراء التي تلصقهم بمقاعدهم لتصريحات إعلامية هلامية توثق الكوارث، دون حصافة منهم، إذ رأينا رئيس قطاع الإنتاج الحيواني يصرح بكل فخر لأحد البرامج الإعلامية، مساء السبت 20 مايو بأن علماء مركز البحوث الزراعية نجحوا في استنباط 14 نوعا جديدا من سلالات الدواجن المتأقلمة مع الظروف البيئية المصرية، وأنها ـ أي السلالات ـ ثنائية الغرض لإنتاج اللحم وبيض المائدة.

* الأغرب من ذلك أن الدكتور طارق سليمان رئيس قطاع الإنتاج الحيواني في وزارة الزراعة، أكد أن هذا الإنجاز، يأتي ضمن اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسي والدولة بصفة عامة، بقطاع الثروة الداجنة، واصفا إياه بأنه "اهتمام غير مسبوق"، وقد لا يعرف أن هذا التصريح يأتي ضمن العرض غير الأمين على ولاة الأمر في هذه الدولة المكلومة بأزمة إنتاج البروتين منذ أكثر من عامين ونصف العام، والغريب أنه يعلم جيدا أن الرئيس السيسي يصارع لتقليص فجوة الاستيراد في كل مجالات حياتنا في مصر، ولو علم بهذا الأمر، لأمر بفتح ملف التحقيق في هذه الكارثة، ولجرت الأمور على غير ما تشتهيه نفس المسئول عن قطاع الإنتاج الحيواني في وزارة تضطلع أساسا بإنتاج الغذاء لشعب مصر.

ـ ملخص الكارثة: إذا كانت السلالة الواحد تتكلف في الغرب نحو 200 مليون دولار في عملية تستغرق نحو 10 أعوام، ومصر لديها 14 سلالة تأقلمت مع البيئة المصرية، لإنتاج اللحم والبيض، فمعنى ذلك أن ثروة مصر في هذا المجال تبلغ نحو 200 مليون دولار مضروبة في 14، لتساوي 2.8 مليار دولار، أي 86 مليار جنيه جدود لسلالات مصرية أصيلة، يمكن أن تنشأ عليها صناعة عالمية لتصدير الجدود إلى كافة الدول الإفريقية، وإلى أوروبا والخليج أيضا.

* لا أظن أبدا أن السيد وزير الزراعة، المشغول ببرنامج الاستغلال الأمثل لأصول الدولة من بوابة "الأراضي والعقارات فقط"، يفطن إلى أن هذه الثروة أيضا في حاجة ماسة إلى برنامج وطني لإعادة إحيائها واستغلالها الاستغلال الأمثل، لتحويل صناعة الدواجن في مصر من أزمة سمع بها القاصي والداني حول العالم، إلى مضخة عالمية لتصدير 14 سلالة نجح علماء مصر عبر تاريخ طويل في استنباطها.

* هذه الكارثة تترجم مثلا خليجيا شهيرا، يقول: "اللي ما يعرف الصقر يشويه"، ونحن ذبحنا وسلقنا نحو 183 ألف رأس وشربنا شوربتها، وكانت الرأس الواحدة منها تساوي ألف صقر مما يزهو به الخليجيون تباهيا حين يفوزون بشراء "صقر شاهين" بنحو 10 آلاف دولار للرأس.