التكنولوجيا الحيوية.. مخاوف وخطورة ودور مهم فى الإنتاج الحيواني
كانت مهام العلوم الزراعية فى الماضى أن تقدم تقنيات فنية (تكنولوجيا) تعزز الإنتاج. لكن فى الحقيقة فإن التوسع الحادث فى مجال العلوم الزراعية الأن أصبح ذو مفهوم أكثر إتساعا، فقد أصبح يشمل علاوة على تعزيز الإنتاج سلامة الأغذية والاستدامة البيئية وهذه الأمور تحمل فى الواقع بين طياتها أمور شتى للحفاظ على الموارد وتنميتها وإستدامتها وبالتالى فإن البحوث أصبح عليها إضافة إلى مدى ملاءمتها وآثارها أن تأخذ فى إعتبارها عوامل خارج ميدان البحوث، ومن ضمنها تغير أدوار القطاعين العام والخاص، والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات، وحقوق الملكية الفكرية، والترابط المتزايد فيما بين الزراعة والأسواق العالمية. فى الحقيقة فإن عملية الحجب وتضارب المعلومات لمفهوم "للتكنولوجيا الحيوية" تقود جميعها إلى التشوش بالنسبة العامة حيث مازالت الأغلبية منهم متأثرة بشكل كبير بما يسمعون عنه أو يعرفونه أو بما يعتقدونه عن الكائنات المحورة وراثياً Genetically Modified Organisms, GMOs وبالتالى فإن الفوارق بين التكنولوجيات الحيوية المختلفة وآثارها الإيكولوجية والبيئية بعيدة المدى مازالت غائبة عن الكثير من العامة. وهناك حاجة ملحة لإجراء مناقشات موضوعية مبنية أساس علمي بشأن التكنولوجيا الحيوية، لتحديد مستوى سلامة استخدام هذه التكنولوجيات أو مستوى الخطر الناجم عنها. وفى الحقيقة فإن هناك بعض من المخاوف بالنسبة للمستهلكين للمنتجات الحيوانية من إستخدام التكنولوجيا الحيوية بصورة أو باخرى. وكذا التخوف الذى نمر به الأن فى مصر على سبيل المثال من إمكانية حدوث فقد للتنوع الوراثي نتيجة لتفضيل السلالات عالية الإنتاج على السلالات المصرية التي تتمتع بصفات وراثية متأقلمة على البيئة المحلية التى تتواجد فيها. فلا يخفى على المتخصصين فى مجال الإنتاج الحيوانى أن هذا التفضيل سمةً مصاحبة لإنتخاب الثروة الحيوانية على مرّ الزمن، ولكن أساليب التكنولوجيا الحيوية الأن يمكن أن تسرّع من عمليات الإنتخاب والتحسين الوراثى. كما يجب أن يراعى عند التشجيع على الإنتخاب لرفع الإنتاج فى مصر، ينبغي أن يكون لدينا سياسات للصون الوراثي وأن يكون لدينا خطط وبرامج لذلك، فسياسة زيادة الانتاج بالخلط العشوائى لايجب أن تسود بهذا الشكل المدمر الذى تمر به الأن الثروة الحيوانية عندنا. كما أنه حتما ولا بد من الرصد الدقيق عند إدخال سلالاتٍ أو أصنافٍ جديدة على الحيوانات المحلية. لعلنا نعرف أن المستهلكون فى البلاد المتقدمة قد عبرو عن قلقهم بمظاهرات عارمة نقلتها وكالات الأنباء العالمية بشأن الآثار المباشرة على البشر من تناول حيواناتٍ كانت قد أطعمت أعلافاً محورة وراثياً. ورغم إن التجارب التى اجريت فى هذا الشأن حتى الآن تشير إلى أنه لا مبرر لهذا القلق بالنسبة للمنتجات التي تستخدم حالياً؛ ولكنه سيبقى هذا القلق قائماً مع كل تغيير جديد يجري إدخاله بواسطة التكنولوجيات الحيوية. وفى الواقع أن الرصد طويل المدى للآثار الإيجابية والسلبية أمر لا بد منه فى هذا الخصوص.
دور التكنولوجيات الحيوية فى مجالات الإنتاج الحيوانى
يساهم قطاع الماشية بشكل مباشر في تأمين الحياة المعيشة للناس ليس فقط عن طريق توفر الغذاء فحسب، بل أيضا بالمنتجات غير الغذائية والمساهمة فى العمل الزراعى الذى مازال منتشر فى كثير من البلدان بل ويسهم أيضا فى الأمن المالي ولعل هذا الامر معروف بشكل جلى فى الريف المصرى حيث يقوم المزارع ببيع حيواناته لزاج احد أبنائه أو بناته أو يستخدم أموال بيع حيواناته فى بناء مسكن .. الخ. من المتوقع أن تزيد نسبة مساهمة الإنتاج الحيوانى من الناتج المحلى الإجمالى الزراعى وذلك نظرا للزيادة المضطردة في الطلب على المنتجات الحيوانية. أيضا فإن تنمية قطاع الثروة الحيوانية سوف يسهم فى تخلق فرص لتحسين رفاهية المعيشة للافراد الذين يعتمدون على تربية الماشية في معيشتهم. إلا أن هناك تحديات يجب النظر إليها من بشكل جدى مثل تدهور الأراضي وشحة المياه والتى سوف تؤثر على الناتج من الأعلاف الرئيسة، كذلك التلوث البيئي والاحتباس الحراري على المستوى العالمي. على الجانب الأخر فإن تآكل الموارد الوراثية الحيوانية فى مصر يجب أن يوضع له حد حتى لانستيقظ نبكى على اللبن المسكوب. من ناحية اخرى فإن الأمراض المستجدة تشكل كلها تحديات أمام قطاع الثروة الحيوانية والتى يجب إعادة النظر فيها بشكل أكثر جدية إذا كنا جاديين بالفعل فى زيادة التنمية بهذا القطاع. ومن هذا المنطلق نجد أن التكنولوجيات التقليدية والحيوية في زيادة انتاج الثروة الحيوانية قد ساهمت وسوف تسهم بشكل كبير فى الفترات المقبلة نظرا للتطورات السريعة والمتلاحقة فى هذا المجال، لا سيما في البلدان المتقدمة. التكنولوجيات الحيوية يمكن أن تساعد على التخفيف من حدة الفقر والجوع، عن طريق مساهمتها فى الحد من التهديدات التي تشكلها الأمراض وتأمين الاستدامة البيئية. وهناك مجموعة واسعة من التكنولوجيات الحيوية المتاحة والتي بدأ استخدامها فعليا في في كل من القطاعات الرئيسية الثلاثة لعلوم الحيوان، والتي من الممكن تصنيفها حسب التكاثر وعلم الوراثة والتربية الحيوانية؛ وتغذية الحيوانات والإنتاج الحيواني؛ وصحة الحيوان.
أولا: التلقيح الإصطناعى والتحسين الوراثى:
يرى الكثيرون أن التلقيح الاصطناعي هو التكنولوجيا الحيوية الأكثر تطبيقا في قطاع الثروة الحيوانية، وخاصة عند استخدامه مع حفظ المواد الوراثية في سائل النيتروجين، مما يجعلها أداه جيدة تسهم فى تحسين وراثي كبير من أجل زيادة الإنتاجية، فضلا عن نشر شامل للمواد الوراثية للذكور المختارة. إلا أن للتكنولوجيات التكميلية الأخرى المساعدة مثل قياس الهرمونات التناسلية، وتوقيت الشياع والتلقيح هى أيضا تقنيات هامة تسهم فى تحسين كفاءة عملية التلقيح الإصطناعي نفسها. كما أن تكنولوجيا نقل الأجنة من التكنولوجيات التى تعطى نفس الفرصه لكافة الإناث، ولو أن تطبيقها يكون على نطاق أصغر بكثير وبسعر أكبر بكثير مقارنة بالتلقيح الإصطناعى إلا أنه من المتوقع أن التطورات المتلاحقة والسريعة فى العلوم سوف تسهم فى تطوير هذه التقنية بشكل ما فى المستقبل. وعلى نفس وتيرة الأهتمام فإن استخدام الواسمات الجزيئية المعتمدة على الحمض النووي (الدنا) في التحسين الوراثي بدأت تخطو خطوات واسعة للمساهمة فى الإنتخاب حيث بمعاونة البصمة الوراثية يمكننا تحديد المورثات المرغوبة أو المستهدفة، فضلا عن توصيف الموارد الوراثية الحيوانية والحفاظ عليها. هذا وتستخدم تقنية التلقيح الإصطناعي بشكل أساسى في تلقيح الأبقار والجاموس المنتج للألبان بشكل أكبر من الأغنام والماعز، بالذات فى المناطق المحيطة للمدن (الزرابة) حيث هناك خدمات تكميلية ومنها تسويق الحليب. إن عدم توفير ماكينات إنتاج النتروجين السائل فى منطقة مثل صعيد مصر يؤدى إلى ارتفاع تكلفة النتروجين السائل المستخدم لحفظ المواد الوراثية فى هذه المناطق وكذا تكاليف جرعات السائل المنوي الحيواني مما يؤدى غالبا إلى تقييد تطبيق تقنية التلقيح الإصطناعي في مثل هذه المناطق. ومن المهم أن نذكر انه عادة ما يتم استخدام التلقيح الإصطناعي في عمليات التهجين بواسطة مواد وراثية مستوردة بدلا من تلك المحلية تحت حجة أن السلالات الإجنبية متفوقة وراثيا من الناحية الإنتاجية على الرغم من أن السلالات المحلية تتفوق فى مقاومة الأمراض وتحمل الظروف المناخية ومشاكل التغذية فى مصر. و يحدث ذلك نظرا لعدم وجود برامج صون وتحسين الموارد الوراثية المحلية خاصة البرامج المعنية بتحديد الحيوانات والتسجيل وتقييم النتائج. ويحضرنا فى هذا المقام أن عدم وجود نظام للتعرف على الحيوانات المتفوقة وراثيا يمنع (مع عدم وجود القدرة التقنية) إستخدام تكنولوجيات أكثر تقدما، مثل نقل الأجنة أو الإنتخاب بمعاونة الوسمات. فى واقع الأمر إن إستخدام التكنولوجيات الحيوية الجزيئية في مجال الإنتاج الحيواني على وجه الخصوص فى مجال تربية الحيوان يعتبر محدود بشكل عام ويقتصر على دراسات التوصيف الوراثي، عادة من خلال التعاون الدولي. ونأمل فى المستقبل القريب أن يكون لمجال التكنولوجية الحيوية دور حقيقى فى صون وتحسين مواردنا الوراثية الحيوانية وأن يصاحب ذلك إهتمام الدولة بتكليف المتخصصين فى مجال تربية الحيوان أن يضعو لنا خريطة طريق.
ثانيا: تغذية الحيوان
فى مجال تغذية الحيوان يعتمد إستخدام التكنولوجيا الحيوية في أغلب الحالات على إستخدام الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك تلك المنتجة من خلال تكنولوجيا الحمض النووي (الدنا) المعاد تركيبة (المؤتلف). وتستخدم مثل هذه الكائنات الدقيقة فى تقنيات التخمر لانتاج المغذيات (مثل أحماض أمينية أساسية معينة أو بروتينات كاملة من البروتينات وحيدة الخلية) أو تستخدم لتحسين هضم الأعلاف الحيوانية مثل تنمية الفطريات على الأعلاف الخشنة لتحسين هضم السيليوز والهمى سليلوز. وتستخدم التلقيحات الميكروبية فى حفظ و زيادة جودة العلف الأخضر أو المتبقيات الزراعية الخضراء التى يتم سيلجتها (إنتاج السيلاج) بالكمر أو لتحسين الهضم، في حال إستخدام الأعلاف المحتوية على المدعمات الحيوية (البروبيوتيك). وقد تم تطوير بكتيريا ذات الحمض النووي المعاد تركيبه لانتاج إنزيمات أو هرمونات معينة تساعد على تحسين استخدام الأعلاف، والتي يمكن أن تزيد من الإنتاجية. وتستخدم أيضا الإنزيمات المحللة للألياف لزيادة إنتاجية الحيوانات وتخفيض الملوثات البيئية. على مايبدو أن الأحماض الأمينية والإنزيمات هي من أكثر منتجات التكنولوجيا الحيوية المتعلقة بالتغذية والأكثر شيوعاً واستخداما في البلدان النامية على وجه الخصوص. وقد قامت الهند والصين بتطوير مصانع محلية لإنتاج هذه المنتجات. من المعروف أن الكبريت فى العليقة هو المحدد لإنتاج الصوف فى الأغنام، وقد تمكن الباحثو من تعديل خلايا النسيج الطلائى فى الكرش وراثيا لإفراز انزيم السيستئين أستيل ترانسفيريز وأنزيم الأستيل سيرين سمفاىيدريميز مما أدى إلى إعادة تخميق السيستئين من الكبريت غير العضوى ولم يعد الغذاء هو العامل المحدد لإنتاج الصوف. كما أن بعض البحوث الجينية قد ركزت على تحسين الهضم بإدخال الجين المشفر لإنتاج السلليز فى بنكرياس الحيوانات وحيدة المعدة ما قد يؤدى الى إمكانية هضم الألياف فى غير المجترات.
من التطبيقات أيضا التى اجريت فى الفتره الاخيرة لاستخدام تقنية التكنولوجيا الحيوية فى تغذية الحيوان والدواجن، لتحسين أداء ميكروبات الكرش والقناة الهضمية، وذلك عن طريق إنتاج البروبيوتك والتى هى عبارة عن مجموعات من الأحياء الدقيقة التى عند إعطائيا للحيوان تحسن من أداءه الإنتاجى عن طريق تحسين الظروف البيئية للميكروفلورا الموجودة بصورة طبيعية فى الحيوان العائل، والمثال على ذلك الخميرة الحية. كما يتم استخدام الفطريات فى هضم الالياف داخل الكرش وخارجه، وكذا يتم إنتخاب بعض سلالات البكتريا لتحليل الألياف، أو لإزالة سمية بعض النباتات عن طريق إنتخاب بعض سلالات البكتريا المتخصصة. على الجانب المقابل تم إستخدام التكنولوجيا الحيوية فى إنتاج أعلاف بها مركبات لها تاثير إيجابى على الحيوان مثل الفاكسينات أو الأجسام المضادة أو إنزيمات أو هرمونات، إنتاج الذرة المعدلة وراثيا لتغذية الحيوان والدواجن والتى يرتفع بها نسبة الزيت كمصدر للطاقة كما انه مفيد فى الحيوانات المجترة حيث يقلل من التاثير السلبى لإضافة الزيوت على تحلل الالياف، كذلك الذرة الذى يحتوى على الفوسفور عالى الاتاحية لتقليل تلويث الفوسفور للبيئة، كذلك إنتاج الذرة التى تحتوى على الاحماض الامينية الضرورية كاليسيين والمثيونين. إلا أن البحوث فى بيوتكنولوجيا إنتاج الأعلاف يجب أن تكون بحوثاً متعددة التخصصات interdisciplinary بحيث تضم الفرق البحثية متخصصين فى تربية النبات جنبا إلى جنب مع متخصصين تغذية الحيوان لتحقيق الفائدة من تحويرات الصفات لكل من صناعة إنتاج المحاصيل وصناعة الإنتاج الحيوانى أيضا.
هذا ويقف المجتمع قلقا من بحوث الهندسة الوراثية للحيوان بدرجة أكبر من قلقه لنفس البحوث على النبات بسبب قرب الحيوان من الإنسان وما يمكن أن تولده هذه البحوث من مخاوف وتوقعات معظمها سلبية. ولذا فإن معدل التقدم فى مثل هذه النوعية من البحوث أقل من مثيلتها فى النبات أو الميكروبات.
ثالثا: في مجال الصحة الحيوانية
لزيادة دقة تشخيص الأمراض ومكافحتها بالإضافة إلى العلاج. يتم استخدام الاجسام المضادة مونوكلونال Monoclonal antibodies (mAb) في طرق التشخيص المعتمدة على المناعة، بما في ذلك الفحص المناعي المرتبط بالإنزيم والفحص المناعي الإشعاعي. قد تكون هذه الأساليب لا تسمح بتمييز الحيوانات المحصنة من تلك المصابة، لذلك أصبحت إتجاه البيولوجيا الجزيئية القادرة على كشف تسلسل حمض نووي معين مفضلة الآن. التطعيم هو أيضا أحد الوسائل التى لا غنى عنها للحفاظ على صحة الحيوان، واللقاحات التى تحتوى على سلالة معادة التركيب توفر مزايا ايجابية بالمقارنة مع اللقاحات التقليدية، من حيث النوعية والاستقرار والسلامة. بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام تقنية الحشرة العقيمة، عادة كجزء من توجه شامل للإدارة المتكاملة للآفات، للحفاظ على الصحة الحيوانية ضمن منطقة جغرافية معينة من خلال التحكم في الحشرات التي تسبب أو تنقل أمراض معينة الى الماشية.
في مجال الصحة الحيوانية، تستخدم التقنيات الجزيئية المصلية على نطاق واسع في البلدان النامية. ويتم استخدام عمليات التشخيص المعتمدة على تفاعل تسلسل البوليميريز بشكل متزايد للسماح بالتشخيص المبكر للأمراض، ولكن هذا الإستخدام يقتصر أساسا على المعامل المتخصصة ومؤسسات البحوث ومختبرات التشخيص الحكومية. وقد تم استخدام التطعيم على نطاق واسع، باعتباره تدبيرا فعالا من حيث التكلفة الإقتصادية لمكافحة الأمراض المعدية، كما يشهد على ذلك قرب القضاء على مرض الطاعون البقري. ومع ذلك، فإن اللقاحات المعادة تركيبها التي يتم إنتاجها تجاريا تعتبر قليلة الإنتاج، واستخدامها في البلدان النامية لا يكاد يذكر. وقد لعبت تقنية الحشرة العقيمة دورا حيويا في القضاء على ذبابة تسي تسي في زنزيبار، وفي السيطرة على يرقات الذباب القوقعي في عدة بلدان.