الجمعة 29 مارس 2024 مـ 01:24 صـ 18 رمضان 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

لمحات من الماضي .. في عزاء برهان بن عاشور

القاهرة

تلقيت خبر انتقال الأخ برهان بن عاشور في تونس إلى رحمة الله تعالى، وقد تعرفت عليه في الستينيات أثناء اقامته في مصر كلاجئ سياسي، وكان من الشباب المتحمس لرفعة بلده تونس، فقد نشأ في أسرة عريقة تتسم بالعلم على مر أجيال وتنتسب والدته لعائلة باي تونس، وعائلة والده كان لها أدوار على مر التاريخ في دار الافتاء التونسية وأيضًا العمل العام.

الجد محمد طاهر بن عاشور من علماء جامعة الزيتونة وكان على علاقة بالشيخ/ محمد عبده، ودعى إلى تقديم معاصر للشريعة، مع السعي إلى إدراج ذلك في العملية التعليمية للأجيال الجديدة، ونادى بالاجتهاد.

وكان برهان لديه أمل شاركناه فيه في دفع الأمة العربية والاسلامية وتكاملها ورقيها وارساء القيم التي تحفظ الوطن وتحث الأجيال القادمة على العمل في بنائه والنهوض به.

وقد تعرف على مجموعة من الأصدقاء المقربيين مني في هذه الفترة منهم الأخ/ بشار رسلان من (حمص) سوريا (حزب البعث)، والأخ لبيب الصباح من جنين (الأردن)، والأخ/ عبد الكريم أبو عجيج من المغرب وهو السيد مهدي بن بركة (حزب القوى الشعبية)، والأخ فوزي عماري من الأردن ـ وأبو بكر الصقر وفاضل عارف من ليبيا. والأخ أحمد العمارتي من طنجة في المغرب، والذي تزوج من حفيدة السيد/ عبد السلام من مشيش، وكان معلمًا للسيد أبو الحسن الشاذلي، والأخ عادل خشكار من تركمان اللاذقية في سوريا، والأخ إبراهيم الحسيني من القدس، فلسطين وغيره من الأخوة من غزة، وقد كانت هناك لقاءات دورية نناقش فيما بيننا عن الطموح والسعي إلى مستقبل أفضل وتعاون وتكامل أمثل للدول العربية.

وقد قمت بتقديم المجموعة للتعرف على الأصدقاء: السيد منصور حسن، والسيد السفير/ تحسين بشير والذي كان في هذه الفترة في جامعة الدول العربية. وقد تم التواصل بين هؤلاء النخبة والأصدقاء المخلصين واقتراح ضرورة تكوين جامعة للشعوب العربية تمثل كافة الأطياف ليتم الحوار بغرض الوصول إلى وضوح للرؤية المستقبلية للعالم العربي.

ومن الممكن الآن القول إن هذا الاتجاه يمكن أن يوصف بالرومانسية الفكرية أو السياسية التي تتجاهل الواقع الأليم، والتحدي الحقيقي الذي يواجه الأمة العربية في الماضي والحاضر وهو الظلال الثقيلة من الخارج أو من قوى تريد الحكم أو قوى لا تريد أن تترك السلطة وهو ما يولد اليأس والإحباط في نفوس الشباب، ويدفعه إلى الانخراط في أيديولوجيات مستوردة أو الدخول في ظلمات الأصولية في فهم خاطئ للعقيدة. ما نحتاجه هو النظر إلى المبادئ الإنسانية التي تجمع البشر في التراث الفكري والروحي.

استمر لقاء هذه المجموعة أو بعض منها على مر السنوات. أما عن الأخ/ برهان عاشور، رحمه الله، فقد دأب على الاتصال والتواصل مع تجمعات شبابية في تونس. وكان على صلة مع السيد/ هواري بو مدين (الذي أصبح رئيس جمهورية الجزائر فيما بعد)، وعرفني عليه في أحدى الزيارات لمصر، واستمرت إقامة الأخ برهان في مصر كلاجئ سياسي، وفي هذه الأثناء عام 1965، تقرر زيارة السيد/ الحبيب بورقيبة لمصر. وكان الأخ برهان حزينا لذلك، وأبلغ الأجهزة السيادية أن الحبيب بورقيبه بعد تكريمه وانتهاء زيارته سيذهب إلى الأردن لعرض أفكاره الخاصة بالقضية الفلسطينية وهي مناهضة لفكر القيادة المصرية وهو ما حدث.

وهنا يجب أن أوضح أن الأخ برهان كان من جماعة السيد/صالح بن يوسف شريك الحبيب بورقيبة في حركة التغيير في تونس وكان باي تونس يؤيد مسعاهم في الاستقلال، ولكن بورقيبه افترق عنهم وحدث خلاف أدى إلى سفر السيد صالح بن يوسف لأوروبا.

وفي إطار إصلاح هذه الجفوة وإحداث تقارب حدث اتصالات من جانب الحبيب بورقيبة. ويعتقد أنه أرسل شخص يدعى بشير زرقه العيون، والذي زار السيد صالح بن يوسف في فندقه في ألمانيا وقتله، وذلك ما أدى إلى غضب جماعة صالح بن يوسف على الحبيب بورقيبة وتم القبض على زعمائهم من الشباب، ومنهم الأخ برهان بن عاشور وأصدرت الأحكام بالسجن والإعدام بتهمة قلب نظام الحكم والتخطيط لاغتيال بورقيبة.

ولكن نظرًا للوضع الاجتماعي لعائلة الأخ برهان، فقد استدعاه الحبيب بورقيبة من السجن وقال له إنه من أجل العائلة سوف ينفيه خارج تونس وذهب إلى فرنسا ومنها إلى مصر التي استقبلته كلاجئ سياسي.

وفي أثناء الزيارة الرسمية لبورقيبة لمصر كنا في لقاء معتاد مع الزملاء والأخ برهان في فندق سميراميس، وذهب برهان إلى الاستقبال في الفندق وسأل عن بشير زرق العيون وعرف أنه وبعض أعضاء الوفد المرافق للرئيس بورقيبه ينزلون في الفندق. وذكر لنا الأخ برهان ما ينوي فعله معه، وقد حاولت والزملاء أن نثنيه عن القيام بأي فعل يسبب حرج للقيادة المصرية التي تستضيفه.

وتوالت الأحداث وتحدثت معه الأجهزة في ذلك الأمر أيضًا وسافر بورقيبه إلى الأردن وأعلن من هناك عن رأيه في القضية الفلسطينية تمامًا كما ذكر الأخ برهان وتوالت الأحداث للأخ برهان، وغادر مصر بعد سنوات إلى سوريا وتزوج من عائلة الأتاسي ورزق بأبنائه هناك، ثم ذهب إلى الجزائر، بدعم من السيد هواري بو مدين واستمر في أحلامه واماله لاحداث تغيير في تونس، ومع تغيير الحكم والمسؤولية في الجزائر وأصبحت إقامته في الجزائر غير مستقرة.

وتواكب مع ذلك صدور قرار عفو رسمي عنه في تونس، فآثر الرجوع إلى وطنه وعُيِّن في وزارة الخارجية التونسية، وعمل فترة في الإمارات واستمر التواصل بيننا على فترات متقطعة، وكنت أزور تونس في أثناء عملي كمدير عام للمركز الدولي للبحوث الزراعية في الأراضي الجافة (إيكاردا)، والذي لديه مكتب إقليمي لشمال أفريقيا في تونس وكنت اتردد على هذا المكتب طوال 11 عاما لمتابعة النشاط.

استمر لقائي بالأخ برهان في تونس كلما سمحت الظروف، واتصل بي تلفونيًا عام 2012 بعد الثورة والانتخابات، وكان يجهش بالبكاء ويقول إلا مصر، لو ضاعت مصر ضاع العالم العربي كله ولن تتمكن دولة عربية من الخروج من هذا الظلام.

رحمه الله، ولعل مسيرته تعطي رسالة للشباب عن الرغبة العميقة لدى شباب هذا الجيل للتغيير والاصرار على الاتجاه إلى المعاصَرة والحفاظ على الأصالة، رحمه الله وعفا عنه وعنا.

* وزير الزراعة الأسبق